responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 32  صفحة : 280
النَّارِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ كَالْعَدَمِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي وُجُودِهِ فَوَائِدُ، ثُمَّ قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] أَيْ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَجَلَّ الْمَقَاصِدِ كَانَ سَائِرُ الْمَقَاصِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْعَدَمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى مُبَالَغَتِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ: لَفِي خُسْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ كَالْمَغْمُورِ فِي الْخُسْرَانِ، وَأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَثَانِيهَا: كَلِمَةُ إِنَّ، فَإِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ وَثَالِثُهَا: حَرْفُ اللَّامِ فِي لَفِي خُسْرٍ، وهاهنا احْتِمَالَانِ:
الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَفِي خُسْرٍ أَيْ فِي طَرِيقِ الْخُسْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: 10] لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ النَّارَ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ خُسْرٍ، لِأَنَّ الْخُسْرَ هُوَ تَضْيِيعُ رَأْسِ الْمَالِ، وَرَأْسُ مَالِهِ هُوَ عُمُرُهُ، وَهُوَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ تَضْيِيعِ عُمُرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَتْ مَصْرُوفَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا شَكَّ فِي الْخُسْرَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْمُبَاحَاتِ فَالْخُسْرَانُ أَيْضًا حَاصِلٌ، لِأَنَّهُ كَمَا ذَهَبَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ عَمَلًا يَبْقَى أَثَرُهُ دَائِمًا، وَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالطَّاعَاتِ فَلَا طَاعَةَ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِنَّ مَرَاتِبَ جَلَالِ اللَّهِ وَقَهْرِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَكُلَّمَا كَانَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِهَا أَكْثَرَ كَانَ خَوْفُهُ مِنْهُ تَعَالَى أَكْثَرَ، فَكَانَ تَعْظِيمُهُ/ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَاتِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَتَرْكُ الْأَعْلَى وَالِاقْتِصَارُ بِالْأَدْنَى نَوْعُ خُسْرَانٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ الْبَتَّةَ عَنْ نَوْعِ خُسْرَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الْخُسْرَانِ وَالْخَيْبَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ فِي حُبِّ الْآخِرَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْأَسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْآخِرَةِ خَفِيَّةٌ، وَالْأَسْبَابَ الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها، وَهِيَ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مُشْتَغِلِينَ بِحُبِّ الدُّنْيَا مُسْتَغْرِقِينَ فِي طَلَبِهَا، فَكَانُوا فِي الْخُسْرَانِ وَالْبَوَارِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ التِّينِ [4، 5] : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فَهُنَاكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ مِنَ الْكَمَالِ والانتهاء إلى النقصان، وهاهنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ مِنَ النُّقْصَانِ وَالِانْتِهَاءَ إِلَى الْكَمَالِ، فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ؟ قُلْنَا: الْمَذْكُورُ في سورة التين أحوال البدن، وهاهنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين.

[سورة العصر (103) : آية 3]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ قد تقدم تفسيرهما مرارا، ثم هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: الْعَمَلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا التَّكْرِيرُ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] وَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] لِأَنَّا نَقُولُ هُنَاكَ: إِنَّمَا حَسُنَ لِأَنَّ إِعَادَتَهُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ لَيْسَ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ الْأُمُورِ المسماة بالإيمان،

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 32  صفحة : 280
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست